عرض اون لاين كتاب الادب والنصوص ثاني ثانوي ادبي
- انظم الى قناة منهج ليبيا الجديد في التليجرام
محتوى الكتاب
إطلالة على العصر العباسي
توطنة:
كانت نقطة البداية السياسية للعصر العباسي محددة بانهيار الدولة الأموية ، واستيلاء العباسيين على الحكم ، وانتقال مركز الخلافة من الشام إلى العراق سنة 132 هـ ، كما كانت نقطة نهايته سنة 656 هـ ، أو سنة 651 هـ ، محددة بقتل الخليفة المستعصم» آخر الخلفاء العباسيين على أيدي الغزاة التتار ، فامتد هذا العصر خمسة قرون كاملة كانت من أخصب العصور ثقافة وحضارة ونتاجاً أدبياً وعلمياً ، يقسمها الباحثون عادة إلى مجموعة
من العصور .
ويمكننا هنا تسهيلا للأمور ، وبحسب ما ارتضاه بعض الدارسين أن نقسم هذا العصر إلى عصرين كبيرين ، هما : العصر العباسي الأول ، والعصر العباسي الثاني ، وذلك نظراً للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية الكبرى التي أمكنها أن تحدث تمايزاً فيما بين العصرين ، على أنه لا يمكننا أن نغفل عصراً آخر كان ما بين العصرين : العباسي ، والحديث الذي نعيش في حدوده الآن ، ذلك هو العصر المملوكي الذي يجمع الدارسون على أنه عصر التخلف والانحطاط ، إلى جانب العصر الأندلسي الذي كان منذ بداياته موازيا لهذا العصر متأثراً به ومؤثراً فيه إلى حد بعيد ، بسبب اللغة الواحدة ، والدين الواحد ، والثقافة الواحدة ...
العصر العباسي الأول
يمكن أن نعرف العصر العباسي الأول بأنه ذلك العصر الذي اتسم بالوحدة السياسية تحت حكم خليفة واحد ، تمتد سيطرته من حدود الصين شرقا إلى أقاصي المغرب غربا ، باستثناء الأندلس التي انفصلت عن مركز الخلافة مبكراً ، بقرار عبد الرحمن بن معاوية إليها ، والتفاف الناس حوله ، وإقامته هناك دولة خلافة مستقلة ابتداء من سنة 138 هـ .
وينحصر هذا العصر فيما بين سنتي 132 و 248 هـ ، أي : فيما بين استيلاء أبي العباس الملقب بالسفاح أول الخلفاء العباسيين على مقاليد الخلافة ، ووفاة المستنصر بالله ، عندما بدأ الضعف يتسرب إلى مركز الخلافة في بغداد ، فاستقل الطاهريون بخراسان ، ثم بدأت من بعدهم الأمصار تستقل تباعاً تحت حكم أسر يتوارث أبناؤها العرش فيها ..
1. الملامح السياسية والاجتماعية والاقتصادية :
كان التوقف النسبي للفتوحات والحروب الطائفية التي شهد العصر الأموي شيئاً غير قليل منها ، وكذلك سيطرة الخلفاء العباسيين الأوائل على مقاليد الحكم وقوتهم ، من أهم العوامل التي أحدثت استقراراً كبيراً نتج عنه رخاء اقتصادي ، تمثل في اشتغال الناس بالتجارة والزراعة والصناعة ، فكان التجار يسافرون إلى أقاصي البلاد ، يجلبون المنسوجات والجلود والحلي والأواني والماشية ، فيقيمون الأسواق المؤقتة مثل : سوق المريد بالبصرة ، والأسواق الدائمة ، كأسواق المدن الكبيرة مثل : بغداد ودمشق والإسكندرية ، كما نشطت الزراعة فأقام الأمراء والأغنياء ، وعامة الناس أيضاً الضياع والحقول حول الأنهار ومنابع المياه، وقد كان من الطبيعي بناء على ذلك أن تقوم على هذين النشاطين (الزراعة والتجارة) ، حركة صناعية كبيرة تمثلت في إقامة مصانع الورق الذي استوردت طريقة صناعته
من الصين ، وكذلك معامل النسيج، ومعامل صياغة الذهب والفضة ، ومصانع السلاح كالسيوف ، والرماح ، والقسي ، والدروع ، ثم مصانع الخزف والفخار والزجاج والرخام
أما من حيث الحياة الاجتماعية فقد امتزج العرب بغيرهم من الأمم الأخرى ، مسلمين وغير مسلمين ، فتكون بذلك مجتمع جديد فريد اتصف بالعالمية أكثر من اتصافه بالقومية ، الأمر الذي أدى أو كاد يؤدي إلى تلاشي العصبية القبلية ، وإلى قيام ما يمكن أن يسمى بالعصبية المذهبية التي كانت سلمية في أغلب الأحيان ؛ تحتكم إلى المجادلات والحجج والبراهين أكثر مما تحتكم إلى السيف ، كما ظهرت نتيجة هذا التمازج حركة شعوبية كان أساسها التنافس بين تلك الأم في بناء الحضارة ، وكانت إفرازاتها المفاخرات والمنافرات
والهجائيات التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى على السنة الشعراء والخطباء والكتاب ، علاوة على الحرية الاجتماعية التي كان يتمتع بها ذلك المجتمع ، والتي أتاحت للمرأة الخروج والمشاركة في التفاعلات المختلفة ، كما أتاحت لذوي الديانات والمذاهب
المتعددة ممارسة شعائرها ونشر مبادئها دونما رقيب أو حسيب .
2. الحياة الثقافية :
كان لمكانة القرآن الكريم في قلوب المسلمين، وحرصهم على فهمه واستنباط أحكامه ، كما كان لتشجيع الخلفاء العباسيين الأوائل الأثر الكبير في ازدهار الحركة العلمية والأدبية والثقافية الشاملة التي شهدها ذلك العصر ، والتي قامت على ركيزتين أساسيتين هما :
الجمع والتدوين ، و الترجمة ) .
يطلق مصطلح الجمع والتدوين على ما قام به العلماء الرواة من جمع للتراث الأدبي العربي شعراً ونثراً ومن تدوين له ، بغية حفظه وتلقينه ودراسته ، ويلحظ أن هذه الحركة بدأت في فترة متقدمة من العصر الإسلامي ، إذ بدأت بجمع القرآن الكريم في عهد الخليفة أبي بكر الصديق ، ثم في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، ثم بتدوين الحديث النبوي الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، وامتدت هذه الحركة بعد ذلك حتى وقت متأخر من العصر العباسي الأول ، عندما انكب الرواة على جمع الشعر واللغة وتدوينهما ، وكان من أشهر أولئك الرواة (الأصمعي) (216هـ) ، ومن آثاره (الأصمعيات) ، وهو ديوان مختارات شعرية ، ورؤبة بن العجاج) في الرجز ، وأبو عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، وحماد الراوية الذي عرف بكثرة روايته للشعر ، والمفضل الضبي صاحب كتاب المختارات الشعرية الشهيرة (المفصليات) ، وأبو زيد القرشي صاحب كتاب
( جمهرة أشعار العرب الذي هو مجموعة من المختارات الشعرية أيضاً .
ويطلق مصطلح الترجمة على تلك الحركة التي تم عن طريقها نقل الكتب التي ألفت في العلوم المختلفة عند الأم الأخرى وفي اللغات الأخرى إلى العربية ، كاليونانية ، والهندية ،
والفارسية ، والسريانية .
وكانت بداية هذه الحركة في عهد الأمويين على يد خالد بن يزيد بن معاوية ، وعمر ابن عبد العزيز لكنها لم تنشط إلا في العصر العباسي ، وخاصة في عهد الخليفة الثاني المنصور الذي أمر بنقل مجموعة من كتب الطب والهندسة والفلك ، ثم في عهد هارون الرشيد وعهد ابنه المأمون عندما تعاظم أمر الترجمة فترجمت كتب المنطق والفلسفة
والطب والفلك والرياضيات والأدب ، وأنشئت لذلك الدور المتخصصة ، وأنفقت عليها الثروات الطائلة ، وكان من أشهر المترجمين ابن المقفع الذي اشتغل بالنقل عن الفارسية ، وحنين بن إسحاق الذي اشتغل بالنقل عن السريانية واليونانية .
وقد تأسست على الركيزة الأولى (أي الجمع والتدوين) علوم اللغة ، كالنحو والصرف ، وفقه اللغة ، والتأليف المعجمي ، وعلوم الدين، كالتفسير ، والفقه ، ورواية الحديث ، وعلوم
الأدب ، كالرواية والنقد الأدبي .
وكان من أشهر علماء اللغة في هذا العصر الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 170 هـ) ، صاحب كتاب العين) أول معجم مؤلف بحسب مخارج الحروف الهجائية في العربية ، وكتاب العروض وهو أول مؤلف في موسيقا الشعر وإيقاعه ، والفراهيدي هو واضع رموز الحركات على الحروف في الكتابة العربية ، وصاحب الملحوظات الدقيقة في النحو التي اعتمدها تلاميذه من بعده ، وأشهرهم سيبويه المتوفى سنة 180 هـ ، صاحب (الكتاب) أشهر مؤلف في النحو العربي ، والكسائي شيخ الكوفيين وأحد القراء السبعة ، المتوفى سنة
189 هـ ، وغيرهم .
وكان من أشهر المفسرين سفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، أما أشهر الفقهاء فالأئمة الأربعة : أبو حنيفة النعمان (80) - 150 هـ ) ، ومالك ابن أنس (95-179) هـ ) صاحب كتاب ( الموطأ ) ، والشافعي (150-204 هـ ) ومن آثاره رسالة في الفقه ، ثم ابن حنبل ( 164-241 هـ) ومن آثاره ( المسند) في الحديث
وأما النقد الأدبي فكان أشهر من ألف فيه في هذا العصر ابن سلام (232) هـ) ، صاحب كتاب (طبقات فحول الشعراء) ، والجاحظ (159) - 255 هـ ) مؤلف الكتب الشهيرة ومنها : (البيان والتبيين) ، و(الحيوان) ، و(البخلاء) ، وغيرها من الكتب الكثيرة الذائعة الصيت .
وقد تأسست على الركيزة الثانية (الترجمة) علوم الطب والكيمياء والرياضيات ، كما تأسست على الامتزاج بين هاتين الركيزتين علوم التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة ، والتصوف ، وعلم الكلام ، وعلم الفلك ، وكان من أشهر الفلاسفة العرب المسلمين وأولهم : الشيخ الكندي المتوفى سنة (260هـ) ، أما علم الكلام فكان أبرزهم فيه : في هذا العصر أئمة المعتزلة ، ومنهم عمرو بن عبيد المتوفى (144هـ) الذي مارس شطراً من نشاطه زمن الدولة
الأموية وشطراً منه أوائل العصر العباسي ، ومنهم كذلك (النظام) وهو إبراهيم بن سيار
البصري المتوفي (160هـ) .
العصر العباسي الثاني
يبدو هذا العصر أطول كثيرا من سابقه ، بل هو أطول عصور الأدب العربي جميعا ، إذ يمتد أربعة قرون كاملة ، تبدأ من سنة 248 هـ إلى سنة 656 هـ ، كانت مفعمة بشتى ضروب الخلافات والنزاعات والأحداث السياسية الضخمة المروعة ، التي أحدثت هزات خطيرة في العالم الإسلامي أنذاك ، من غزوات صليبية ومغولية متتالية ، إلى اضطرابات داخلية ، وفتن لا تهدأ .
وكان من أهم ما أتم به ذلك العصر هو انقسام ذلك العالم الواحد المترامي الأطراف إلى دويلات وإمارات ، إذ دب الضعف إلى مركز الخلافة في بغداد ، فاغتنم الولاة التابعون الفرصة واستقل كل منهم في ولايته ، مكونا منها إمارة يتوارث أبناؤه وأحفاده العرش فيها من بعده ، حتى إذا سنحت الفرصة لأحد تابعيه انقلب عليه ، وانتزع منه الحكم لنفسه وورثه أبناءه من بعده ، وهكذا دواليك ، وليس للخليفة من سلطان على من يعلن استقلاله إلا
الولاء الاسمي .
1. الملامح الاجتماعية
كان من الطبيعي أن ينعكس هذا الوضع السياسي على المجتمع بشرائحه كافة ، وأن تتغير البني الاجتماعية التحتية تبعاً لتغير الحالة السياسية ، فيعيش المجتمع حالة من القلق النفسي والفكري ، وينقسم على نفسه إلى طبقات متناحرة ، أعلاها تكشف خزائنها بالذهب .
وأدناها تعيش في شطف من العيش ..
ولكن مع ذلك ظلت بعض الملامح الاجتماعية القديمة التي اتسم بها العصر العباسي الأول باقية ، تشهد بقدرة هذا المجتمع على البناء والعطاء ، وعلى التعامل مع المعطيات الصعبة ، وكان من أهم تلك الملامح الباقية ذلك التمادي في البرهنة على التقدم الزراعي والتجاري والصناعي ، ثم ذلك التنافس في بناء المدن وتشييدها ، علاوة على الحرية المتاحة
التي كانت مجالاً حيوياً للنمو الفكري الكبير ...
2. الحياة الثقافية
أمكن للثقافة أن تستمر في نموها ، فيشجع العطاء العلمي والإبداع الأدبي ، وأنشئت من أجل ذلك الجامعات التي تستقبل طلبة العلم من أرجاء المعمورة كافة ، مثل : جامعة الأزهر الفاطمية بمصر، والمدرسة المستنصرية في بغداد، وجامعة القرويين بالمغرب الأقصى ، وأست المكتبات العامة مثل : دارا و الحكمة بغداد التي أسسها المنصور ، واستمر عطاؤها
حتى وقت متأخر من هذا العصر ، ومكتبة القصر الفاطمي بمصر ، إلى جانب المكتبات الخاصة ، مثل : مكتبة الصاحب بن عباد في الري ، ومكتبة بني عمار في طرابلس الشام ، وغيرها كثير ، وكل منها به مئات الآلاف من المجلدات ، بل إن منها ما يربو عدد مجلداتها على المليون ، مثل مكتبة القصر الفاطمي التي قيل إنه كان بها ما يبلغ المليون وستمائة ألف من المجلدات .
وتستمر حركة الترجمة تبعاً لذلك نشطة قوية ، إذ يتفرغ المترجمون للاشتغال في الترجمة . ويتخذها أغلبهم وظيفة رسمية تجرى عليهم مقابلها الرواتب ، ويبادرون إلى نقل جميع ما يصل إلى أيديهم من مصنفات أنتجتها الحضارات القديمة في الشرق والغرب ، ومن هؤلاء كان ثابت بن قرة المتوفى ( سنة 288 هـ ) ، وابن يونس المتوفى سنة 328هـ) وابن إسحاق (331هـ - 398هـ) ، وتمضي إلى جانب ذلك حركة التأليف في العلوم المختلفة أقوى وأنشط ، فيسجل الفارابي (257هـ - 339هـ) حدثاً مهماً عندما يخرج كتابه الشهير (آراء أهل المدينة الفاضلة) ، ويبرز ابن سينا (370هـ - 428هـ) في الطب والفلسفة واللغة والأدب فيضع كتاب (القانون) في الطب ، وكتاب (النجاة) في الفلسفة ، و(رسالة الحروف) في اللغة ، ويترك إلى جانب ذلك مجموعة من القصائد التي تصوّر موقفه الفلسفي ، ويتخصص أبو حامد الغزالي (450 - 505هـ) في الفلسفة والتصوف وأصول الدين، فألف كتبه (إحياء علوم الدين) ، و(المنقذ من الضلال) ، و (تهافت الفلاسفة) ، ويقف ابن جني (330هـ - 392هـ) جهوده على البحث اللغوي فيؤلف كتاب (الخصائص) ، كما يشرح ديوان المتنبي ، ويتفرغ الجرجاني (377 - 411ھ) للبحث في اللغة والنقد والبلاغة ، فيضع أهم مصنفين عرفهما تاريخ النقد في هذا المجال ، وهما كتاب (دلائل الإعجاز) ، وكتاب (أسرار البلاغة) ، هذا إلى جانب إنجازاته في النحو والصرف، ويضع الثعالبي (429هـ) كتابه في التاريخ (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) ، وكل ذلك إلى جانب النشاط الفلسفي والتعليمي الذي قامت به جماعة (إخوان الصفا) ، وإلى جانب ما قدمه الخوارزمي ، وابن حيان ، وابن الهيثم من بحوث مهمة في الفلك والرياضيات والكيمياء والبصريات ، وكل ما ذكرناه هنا لم يكن سوى أمثلة قليلة تشهد على نتاج كثير ، وغيض من فيض كما يقولون ، ولو
أحصي ما قدم في ذلك العصر فقط لاحتاج المحصي إلى الوقت الكثير ، وإلى المجلدات الضخمة .